فصل: تفسير الآيات رقم (55- 61)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 61‏]‏

‏{‏هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ‏}‏‏.‏

لما ذكر تعالى مآل السعداء ثَنّى بذكر حال الأشقياء ومرجعهم ومآبهم في دار معادهم وحسابهم فقال‏:‏ ‏{‏هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ‏}‏ وهم‏:‏ الخارجون عن طاعة الله المخالفون لرسل الله ‏{‏لَشَرَّ مَآبٍ‏}‏ أي‏:‏ لسوء منقلب ومرجع‏.‏ ثم فسره بقوله‏:‏ ‏{‏جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا‏}‏ أي‏:‏ يدخلونها فتغمرهم من جميع جوانبهم ‏{‏فَبِئْسَ الْمِهَادُ‏.‏ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ‏}‏ أما الحميم فهو‏:‏ الحار الذي قد انتهى حره وأما الغَسَّاق فهو‏:‏ ضده، وهو البارد الذي لا يستطاع من شدة برده المؤلم ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ‏}‏ أي‏:‏ وأشياء من هذا القبيل، الشيء وضده يعاقبون بها‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لَهِيعة حدثنا دَرّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏لو أن دَلْوًا من غَسَّاق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا‏"‏ورواه الترمذي عن سُوَيْد بن نصر عن ابن المبارك عن رِشْدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن دَرّاج به‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏لا نعرفه إلا من حديث رشدين‏"‏ كذا قال‏:‏ وقد تقدم من غير حديثه ورواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث به‏.‏

وقال كعب الأحبار‏:‏ غساق‏:‏ عين في جهنم يسيل إليها حُمَة كل ذات حُمَة من حية وعقرب وغير ذلك فيستنقع فيؤتى بالآدمي فيغمس فيها غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام ويتعلق جلده ولحمه في كعبيه وعقبيه ويُجَر لحمه كما يَجُر الرجل ثوبه‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال الحسن البصري في قوله‏:‏ ‏{‏وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ‏}‏ ألوان من العذاب‏.‏

وقال غيره‏:‏ كالزمهرير والسموم وشرب الحميم وأكل الزقوم والصعود والهوى إلى غير ذلك من الأشياء المختلفة والمتضادة والجميع مما يعذبون به ويهانون بسببه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ‏}‏ هذا إخبار عن قيل أهل النار بعضهم لبعض كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏ يعني بدل السلام يتلاعنون ويتكاذبون ويكفر بعضهم ببعض فتقول الطائفة التي تدخل قبل الأخرى إذا أقبلت التي بعدها مع الخزنة من الزبانية‏:‏ ‏{‏هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ‏}‏ أي‏:‏ داخل معكم ‏{‏لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ‏}‏ ‏[‏أي‏]‏ لأنهم من أهل جهنم ‏{‏قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ فيقول لهم الداخلون‏:‏ ‏{‏بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا‏}‏ أي‏:‏ أنتم دعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير ‏{‏فَبِئْسَ الْقَرَارُ‏}‏ أي‏:‏ فبئس المنزل والمستقر والمصير‏.‏ ‏{‏قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ‏}‏ كما قال عز وجل ‏{‏قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏ أي‏:‏ لكل منكم عذاب بحسبه ‏{‏وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ‏}‏ هذا إخبار عن الكفار في النار أنهم يفقدون رجالا كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة وهم المؤمنون في زعمهم قالوا‏:‏ ما لنا لا نراهم معنا في النار‏؟‏‏.‏

قال مجاهد‏:‏ هذا قول أبي جهل يقول‏:‏ ما لي لا أرى بلالا وعمارا وصهيبا وفلانا وفلانا‏.‏ وهذا مثل ضرب، وإلا فكل الكفار هذا حالهم‏:‏ يعتقدون أن المؤمنين يدخلون النار فلما دخل الكفار النار افتقدوهم فلم يجدوهم فقالوا‏:‏ ‏{‏مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا ‏{‏أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ‏}‏ يسلون أنفسهم بالمحال يقولون‏:‏ أو لعلهم معنا في جهنم ولكن لم يقع بصرنا عليهم‏.‏ فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏‏[‏وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ‏.‏ أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ‏]‏ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 44- 49‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ‏}‏ أي‏:‏ إن هذا الذي أخبرناك به يا محمد من تخاصم أهل النار بعضهم في بعض ولعن بعضهم لبعض لحق لا مرية فيه ولا شك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 70‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ‏}‏‏.‏

يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار بالله المشركين به المكذبين لرسوله‏:‏ إنما أنا منذر لست كما تزعمون ‏{‏وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ‏}‏ أي‏:‏ هو وحده قد قهر كل شيء وغلبه‏.‏ ‏{‏رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ‏}‏ أي‏:‏ هو مالك جميع ذلك ومتصرف فيه ‏{‏الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ‏}‏ أي‏:‏ غفار مع عزته وعظمته‏.‏

‏{‏قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ خبر عظيم وشأن بليغ وهو إرسال الله إياي إليكم ‏{‏أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ‏}‏ أي‏:‏ غافلون‏.‏

قال مجاهد وشريح القاضي والسدي في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ لولا الوحي من أين كنت أدري باختلاف الملأ الأعلى‏؟‏ يعني‏:‏ في شأن آدم وامتناع إبليس من السجود له، ومحاجته ربه في تفضيله عليه‏.‏

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال‏:‏ حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا جهضم اليمامي عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن أبي سلام عن أبي سلام عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ رضي الله عنه، قال‏:‏ احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس‏.‏ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا فَثَوّب بالصلاة فصلى وتَجَوّز في صلاته فلما سلم قال‏:‏ ‏"‏كما أنتم على مصافكم‏"‏‏.‏ ثم أقبل إلينا فقال‏:‏ ‏"‏إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، إني قمت من الليل فصليت ما قُدّر لي فنعست في صلاتي حتى استيقظت فإذا أنا بربي في أحسن صورة فقال‏:‏ يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى‏؟‏

قلت لا أدري رب- أعادها ثلاثا- فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري فتجلى لي كل شيء وعرفت فقال‏:‏ يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى‏؟‏ قلت‏:‏ في الكفارات‏.‏ قال‏:‏ وما الكفارات‏؟‏ قلت نقل الأقدام إلى الجمعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء عند الكريهات‏.‏ قال‏:‏ وما الدرجات‏؟‏ قلت‏:‏ إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام‏.‏ قال‏:‏ سل‏.‏ قلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة بقوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك‏"‏‏.‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنها حق فادرسوها وتعلموها‏"‏ فهو حديث المنام المشهور ومن جعله يقظة فقد غلط وهو في السنن من طرق‏.‏

وهذا الحديث بعينه قد رواه الترمذي من حديث ‏"‏جهضم بن عبد الله اليمامي‏"‏ به‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏حسن صحيح‏"‏ وليس هذا الاختصام هو الاختصام المذكور في القرآن فإن هذا قد فسر وأما الاختصام الذي في القرآن فقد فسر بعد هذا وهو قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 85‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏‏.‏

هذه القصة ذكرها الله، تعالى في سورة ‏"‏البقرة‏"‏ وفي أول ‏"‏الأعراف‏"‏ وفي سورة ‏"‏الحجر‏"‏ و‏[‏في‏]‏ سبحان‏"‏ و‏"‏الكهف‏"‏، وهاهنا وهي أن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه السلام بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراما وإعظاما واحتراما وامتثالا لأمر الله عز وجل‏.‏ فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنسا كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه عز وجل فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه‏.‏ وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله، وكفر بذلك فأبعده الله وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه وسماه ‏"‏إبليس‏"‏ إعلاما له بأنه قد أبْلَس من الرحمة وأنزله من السماء مذموما مدحورا إلى الأرض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يَعْجَل على من عصاه‏.‏ فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى وقال‏:‏ ‏{‏لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏.‏ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ‏}‏ كما قال‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 62‏]‏ وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 65‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ‏.‏ أَقُولُ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ قرأ ذلك جماعة منهم مجاهد برفع ‏"‏الحق‏"‏ الأولى وفسره مجاهد بأن معناه‏:‏ أنا الحق، والحق أقول وفي رواية عنه‏:‏ الحق مني، وأقول الحق‏.‏

وقرأ آخرون بنصبهما‏.‏

قال السدي‏:‏ هو قسم أقسم الله به‏.‏

قلت‏:‏ وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 13‏]‏ وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 63‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 88‏]‏

‏{‏قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ‏}‏‏.‏

يقول تعالى‏:‏ قل يا محمد لهؤلاء المشركين‏:‏ ما أسألكم على هذا البلاغ وهذا النصح أجرا تعطونيه من عرض الحياة الدنيا ‏{‏وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ‏}‏ أي‏:‏ وما أزيد على ما أرسلني الله به، ولا أبتغي زيادة عليه بل ما أمرت به أديته لا أزيد عليه ولا أنقص منه وإنما أبتغي بذلك وجه الله عز وجل والدار الآخرة‏.‏

قال سفيان الثوري عن الأعمش ومنصور عن أبي الضحى عن مسروق قال‏:‏ أتينا عبد الله بن مسعود قال‏:‏ يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لا يعلم فليقل‏:‏ الله أعلم فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم‏:‏ الله أعلم فإن الله قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ‏}‏ أخرجاه من حديث الأعمش به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ذكر لجميع المكلفين من الإنس والجن، قاله ابن عباس‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل‏:‏ حدثنا قيس، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لِلْعَالَمِينَ‏}‏ قال‏:‏ الجن والإنس‏.‏

وهذه الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏، ‏[‏وكقوله‏]‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ‏}‏ أي‏:‏ خبره وصدقه ‏{‏بَعْدَ حِينٍ‏}‏ أي‏:‏ عن قريب‏.‏ قال قتادة‏:‏ بعد الموت‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ يعني يوم القيامة ولا منافاة بين القولين؛ فإن من مات فقد دخل في حكم القيامة‏.‏

وقال قتادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ‏}‏ قال الحسن‏:‏ يا ابن آدم، عند الموت يأتيك الخبر اليقين‏.‏

آخر تفسير سورة ‏"‏ص‏"‏، ولله الحمد والمنة‏.‏

تفسير سورة الزمر

وهي مكية‏.‏

قال النسائي‏:‏ حدثنا محمد بن النضر بن مساور، حدثنا حماد، عن مروان أبي لبابة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول‏:‏ ما يريد أن يفطر‏.‏ ويفطر حتى نقول‏:‏ ما يريد أن يصوم‏.‏ وكان يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ‏}‏‏.‏

يخبر تعالى أن تنزيل هذا الكتاب- وهو القرآن العظيم- من عنده، تبارك وتعالى، فهو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏.‏ نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ‏.‏ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ‏.‏ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏192- 195‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏42، 41‏]‏‏.‏ وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ‏}‏ أي‏:‏ المنيع الجناب، ‏{‏الْحَكِيمِ‏}‏ أي‏:‏ في أقواله وأفعاله، وشرعه، وقدره‏.‏

‏{‏إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ‏}‏ أي‏:‏ فاعبد الله وحده لا شريك له، وادع الخلق إلى ذلك، وأعلمهم أنه لا تصلح العبادة إلا له ‏[‏وحده‏]‏ ، وأنه ليس له شريك ولا عديل ولا نديد؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ‏}‏ أي‏:‏ لا يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله، وحده لا شريك له‏.‏

وقال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ‏}‏ شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏ ثم أخبر تعالى عن عُبّاد الأصنام من المشركين أنهم يقولون‏:‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ أي‏:‏ إنما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم، فعبدوا تلك الصور تنزيلا لذلك منزلة عبادتهم الملائكة؛ ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم، وما ينوبهم من أمر الدنيا، فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به‏.‏

قال قتادة، والسدي، ومالك عن زيد بن أسلم، وابن زيد‏:‏ ‏{‏إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ أي‏:‏ ليشفعوا لنا، ويقربونا عنده منزلة‏.‏

ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم‏:‏ ‏"‏لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك‏"‏‏.‏ وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بردها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم، لم يأذن الله فيه ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏36‏]‏‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏25‏]‏‏.‏

وأخبر أن الملائكة التي في السموات من المقربين وغيرهم، كلهم عبيد خاضعون لله، لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم، يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبوه، ‏{‏فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏74‏]‏، تعالى الله عن ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة، ‏{‏فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ أي‏:‏ سيفصل بين الخلائق يوم معادهم، ويجزي كل عامل بعمله، ‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏41، 40‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ‏}‏ أي‏:‏ لا يرشد إلى الهداية من قصده الكذب والافتراء على الله، وقلبه كفار يجحد بآياته ‏[‏وحججه‏]‏ وبراهينه‏.‏

ثم بين تعالى أنه لا ولد له كما يزعمه جهلة المشركين في الملائكة، والمعاندون من اليهود والنصارى في العزير، وعيسى فقال‏:‏ ‏{‏لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ‏}‏ أي‏:‏ لكان الأمر على خلاف ما يزعمون ‏.‏ وهذا شرط لا يلزم وقوعه ولا جوازه، بل هو محال، وإنما قصد تجهيلهم فيما ادعوه وزعموه، كما قال‏:‏ ‏{‏لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏17‏]‏‏{‏قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏81‏]‏، كل هذا من باب الشرط، ويجوز تعليق الشرط على المستحيل لقصد المتكلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ‏}‏ أي‏:‏ تعالى وتنزه وتقدس عن أن يكون له ولد، فإنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي كل شيء عبد لديه، فقير إليه، وهو الغني عما سواه الذي قد قهر الأشياء فدانت له وذلت وخضعت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ‏}‏‏.‏

يخبر تعالى أنه الخالق لما في السموات والأرض، وما بين ذلك من الأشياء، وأنه مالك الملك المتصرف، فيه يقلب ليله ونهاره، ‏{‏يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ‏}‏ أي‏:‏ سخرهما يجريان متعاقبين لا يقران، كل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا، كقوله‏:‏ ‏{‏يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏54‏]‏ هذا معنى ما روي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وغيرهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى‏}‏ أي‏:‏ إلى مدة معلومة عند الله ثم تنقضي يوم القيامة‏.‏ ‏{‏أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ‏}‏ أي‏:‏ مع عزته وعظمته وكبريائه هو غفار لمن عصاه ثم تاب وأناب إليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ‏}‏ أي‏:‏ خلقكم مع اختلاف أجناسكم وأصنافكم وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة، وهو آدم عليه السلام ‏{‏ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا‏}‏، وهي حواء، عليهما السلام، كقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏1‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ‏}‏ أي‏:‏ وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية، أزواج وهي المذكورة في سورة الأنعام‏:‏ ‏{‏ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏143‏]‏، ‏{‏وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏144‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ‏}‏ أي‏:‏ قدركم في بطون أمهاتكم ‏{‏خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ‏}‏ أي‏:‏ يكون أحدكم أولا نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة، ثم يخلق فيكون لحما وعظما وعصبا وعروقا، وينفخ فيه الروح فيصير خلقا آخر، ‏{‏فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏14‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ‏}‏ يعني‏:‏ ظلمة الرحم، وظلمة المشيمة - التي هي كالغشاوة والوقاية على الولد- وظلمة البطن‏.‏ كذا قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وأبو مالك، والضحاك، وقتادة، والسدي، وابن زيد ‏[‏وغيرهم‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ هذا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وخلقكم وخلق آباءكم ، هو الرب له الملك والتصرف في جميع ذلك، ‏{‏لا إِلَهَ إِلا هُوَ‏}‏ أي‏:‏ الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده، ‏{‏فَأَنَّى تُصْرَفُونَ‏}‏ أي‏:‏ فكيف تعبدون معه غيره‏؟‏ أين يُذْهَبُ بعقولكم‏؟‏‏!‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ‏}‏‏.‏

يقول تعالى مخبرا عن نفسه تعالى‏:‏ أنه الغني عما سواه من المخلوقات، كما قال موسى‏:‏ ‏{‏إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏8‏]‏‏.‏

وفي صحيح مسلم‏:‏ ‏"‏يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا‏"‏‏.‏

وقوله ‏{‏وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ‏}‏ أي‏:‏ لا يحبه ولا يأمر به، ‏{‏وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يحبه منكم ويزدكم من فضله‏.‏

‏{‏وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ أي‏:‏ لا تحمل نفس عن نفس شيئا، بل كل مطالب بأمر نفسه، ‏{‏ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏ أي‏:‏ فلا تخفى عليه خافية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ عند الحاجة يضرع ويستغيث بالله وحده لا شريك له، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏67‏]‏‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ في حال الرفاهية ينسى ذلك الدعاء والتضرع، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏12‏]‏‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ‏}‏ أي‏:‏ في حال العافية يشرك بالله، ويجعل له أندادا‏.‏ ‏{‏قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ‏}‏ أي‏:‏ قل لمن هذه حاله وطريقته ومسلكه‏:‏ تمتع بكفرك قليلا‏.‏ وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، كقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏30‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏24‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ‏}‏‏.‏

يقول تعالى‏:‏ أمن هذه صفته كمن أشرك بالله وجعل له أندادا‏؟‏ لا يستوون عند الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏113‏]‏، وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا‏}‏ أي‏:‏ في حال سجوده وفي حال قيامه؛ ولهذا استدل بهذه الآية من ذهب إلى أن القنوت هو الخشوع في الصلاة، ليس هو القيام وحده كما، ذهب إليه آخرون‏.‏

قال الثوري، عن فراس، عن الشعبي، عن مسروق، عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ القانت المطيع لله ولرسوله‏.‏

وقال ابن عباس، والحسن، والسدي، وابن زيد‏:‏ ‏{‏آنَاءَ اللَّيْلِ‏}‏‏:‏ جوف الليل‏.‏ وقال الثوري، عن منصور‏:‏ بلغنا أن ذلك بين المغرب والعشاء‏.‏

وقال الحسن، وقتادة‏:‏ ‏{‏آنَاءَ اللَّيْلِ‏}‏‏:‏ أوله وأوسطه وآخره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ‏}‏ أي‏:‏ في حال عبادته خائف راج ، ولا بد في العبادة من هذا وهذا، وأن يكون الخوف في مدة الحياة هو الغالب؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ‏}‏، فإذا كان عند الاحتضار فليكن الرجاء هو الغالب عليه، كما قال الإمام عبد بن حميد في مسنده‏.‏

حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا ثابت عن أنس قال‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت، فقال له‏:‏ ‏"‏كيف تجدك‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ أرجو وأخاف‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله عز وجل الذي يرجو، وأمنه الذي يخافه‏"‏‏.‏

ورواه الترمذي والنسائي في ‏"‏اليوم والليلة‏"‏، وابن ماجه، من حديث سَيَّار بن حاتم، عن جعفر بن سليمان، به‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ ‏"‏غريب‏.‏ وقد رواه بعضهم عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم، حدثنا عمر بن شبَّة ، عن عبيدة النميري، حدثنا أبو خَلَف عبد الله بن عيسى الخَزَّاز، حدثنا يحيى البّكَّاء، أنه سمع ابن عمر قرأ‏:‏ ‏{‏أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ‏}‏؛ قال ابن عمر‏:‏ ذاك عثمان بن عفان، رضي الله عنه‏.‏

وإنما قال ابن عمر ذلك؛ لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان بالليل وقراءته، حتى إنه ربما قرأ القرآن في ركعة، كما روى ذلك أبو عبيدة عنه، رضي الله عنه ، وقال الشاعر‏:‏

ضَحُّوا بأشْمَطَ عُنوانُ السُّجُودِ بِهِ *** يُقَطَّع الليلَ تَسْبيحا وقُرآنا

وقال الإمام أحمد‏:‏ كتب إلي الربيع بن نافع‏:‏ حدثنا الهيثم بن حميد، عن زيد بن واقد، عن سليمان بن موسى، عن كثير بن مرة، عن تميم الداري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قنوت ليلة‏"‏‏.‏

وكذا رواه النسائي في ‏"‏اليوم والليلة‏"‏ عن إبراهيم بن يعقوب، عن عبد الله بن يوسف والربيع بن نافع، كلاهما عن الهيثم بن حميد، به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ هل يستوي هذا والذي قبله ممن جعل لله أندادا ليضل عن سبيله‏؟‏‏!‏ ‏{‏إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ‏}‏ أي‏:‏ إنما يعلم الفرق بين هذا وهذا من له لب وهو العقل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10- 12‏]‏

‏{‏قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بالاستمرار على طاعته وتقواه ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ‏}‏ أي‏:‏ لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة في دنياهم وأخراهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ فهاجروا فيها، وجاهدوا، واعتزلوا الأوثان‏.‏

وقال شريك، عن منصور، عن عطاء في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ‏}‏ قال‏:‏ إذا دعيتم إلى المعصية فاهربوا، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏97‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ قال الأوزاعي‏:‏ ليس يوزن لهم ولا يكال، إنما يغرف لهم غرفا‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ بلغني أنه لا يحسب عليهم ثواب عملهم قط، ولكن يزادون على ذلك‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ يعني‏:‏ في الجنة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ‏}‏ أي‏:‏ إنما أمرت بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له،‏.‏

‏{‏وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ قال السدي‏:‏ يعني من أمته صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 18‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ‏}‏‏.‏

يقول تعالى‏:‏ قل يا محمد وأنت رسول الله‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏، وهو يوم القيامة‏.‏ وهذا شَرْط، ومعناه التعريض بغيره بطريق الأولى والأحرى، ‏{‏قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ‏}‏ وهذا أيضا تهديد وتَبَرّ منهم، ‏{‏قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ إنما الخاسرون كل الخسران ‏{‏الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ أي‏:‏ تفارقوا فلا التقاء لهم أبدا، سواء ذهب أهلوهم إلى الجنة وقد ذهبوا هم إلى النار، أو أن الجميع أسكنوا النار، ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور، ‏{‏ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ‏}‏ أي‏:‏ هذا هو الخسار البين الظاهر الواضح‏.‏

ثم وصف حالهم في النار فقال‏:‏ ‏{‏لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ‏}‏ كما قال‏:‏ ‏{‏لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏41‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏55‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ‏}‏ أي‏:‏ إنما يَقص خبر هذا الكائن لا محالة ليخوف به عباده، لينزجروا عن المحارم والمآثم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ‏}‏ أي‏:‏ اخشوا بأسي وسطوتي، وعذابي ونقمتي‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُواْ الألْبَابِ‏}‏‏.‏

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا‏}‏ نزلت في زيد بن عمرو بن نُفَيل، وأبي ذر، وسلمان الفارسي‏.‏

والصحيح أنها شاملةٌ لهم ولغيرهم، ممن اجتنب عبادة الأوثان، وأناب إلى عبادة الرحمن‏.‏ فهؤلاء هم الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏}‏ أي‏:‏ يفهمونه ويعملون بما فيه، كقوله تعالى لموسى حين آتاه التوراة‏:‏ ‏{‏فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏145‏]‏‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ المتصفون بهذه الصفة هم الذين هداهم الله في الدنيا والآخرة، أي‏:‏ ذوو العقول الصحيحة، والفطَر المستقيمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى‏:‏ أفمن كتب الله أنه شَقِي تَقْدر تُنْقذُه مما هو فيه من الضلال والهلاك‏؟‏ أي‏:‏ لا يهديه أحد من بعد الله؛ لأنه من يضلل الله فلا هادي له، ومن يهده فلا مضل له‏.‏

ثم أخبر عن عباده السعداء أنهم لهم غرف في الجنة، وهي القصور الشاهقة ‏{‏مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ‏}‏، أي‏:‏ طباق فوق طباق، مَبْنيات محكمات مزخرفات عاليات‏.‏

قال عبد الله بن الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي، حدثنا محمد بن فضيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن علي، رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن في الجنة لغرفًا يُرَى بطونها من ظهورها، وظهورها من بطونها‏"‏ فقال أعرابي‏:‏ لمن هي يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلى لله بالليل والناس نيام‏"‏‏.‏

ورواه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق، وقال‏:‏ ‏"‏حسن غريب، وقد تكلم بعض أهل العلم فيه من قبَل حفظه‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن مُعانق- أو‏:‏ أبي مُعَانق- عن أبي مالك الأشعري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن في الجنة لغرفة يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى والناس نيام‏"‏‏.‏

تفرد به أحمد من حديث عبد الله بن مُعَانق الأشعري، عن أبي مالك، به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة كما تراءون الكوكب في السماء‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فحدثتُ بذلك النعمان بن أبي عياش، فقال‏:‏ سمعت أبا سعيد الخدري يقول‏:‏ ‏"‏كما تراءون الكوكب الدري في الأفق الشرقي أو الغربي‏"‏‏.‏

أخرجاه في الصحيحين، من حديث أبي حازم ، وأخرجاه أيضًا في الصحيحين من حديث مالك، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا فَزارة، أخبرني فُلَيح، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة أهل الغرف، كما تراءون الكوكب الدري الغارب في الأفق الطالع، في تفاضل أهل الدرجات‏"‏‏.‏ فقالوا‏:‏ يا رسول الله، أولئك النبيون‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏بلى، والذي نفسي بيده، وأقوام آمنوا بالله وصدقوا الرسل‏"‏‏.‏

ورواه الترمذي عن سُويد ، عن ابن المبارك عن فُلَيح به وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو النضر وأبو كامل قالا حدثنا زهير، حدثنا سعد الطائي، حدثنا أبو المدَلَّة- مولى أم المؤمنين- أنه سمع أبا هريرة يقول‏:‏ قلنا‏:‏ يا رسول الله، إنا إذا رأيناك رقت قلوبنا، وكنا من أهل الآخرة، فإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشَممْنَا النساء والأولاد‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي، لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم‏.‏ ولو لم تُذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم‏"‏ قلنا‏:‏ يا رسول الله، حَدّثنا عن الجنة، ما بناؤها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لَبِنَةُ ذهب ولَبِنَةُ فضّة، وملاطها المسك الأذْفَر، وحَصْباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يَبْأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه‏.‏ ثلاثة لا تُرَدَّ دعوتُهم‏:‏ الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم تُحمَل على الغَمام، وتفتح لها أبواب السموات، ويقول الرب‏:‏ وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين‏"‏‏.‏

وروى الترمذي، وابنُ ماجه بعضَه، من حديث سعد أبي مجاهد الطائي- وكان ثقة- عن أبي المُدَلِّه- وكان ثقة- به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ‏}‏ أي‏:‏ تسلك الأنهار بين خلال ذلك، كما يشاءوا وأين أرادوا، ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ هذا الذي ذكرناه وعد وعده الله عباده المؤمنين ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏‏.‏

يخبر تعالى‏:‏ أن أصل الماء في الأرض من السماء كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏48‏]‏، فإذا أنزل الماء من السماء كَمَن في الأرض، ثم يصرفه تعالى في أجزاء الأرض كما يشاء، ويُنِبُعه عيونًا ما بين صغار وكبار، بحسب الحاجة إليها؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ‏}‏‏.‏

قال ابن أبي حاتم- رحمه الله- ‏:‏ حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو قتيبة عتبة بن يقظان، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ‏}‏، قال‏:‏ ليس في الأرض ماء إلا نزل من السماء، ولكن عروق في الأرض تغيره، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ‏}‏، فمن سره أن يعود الملح عذاب فليصعده‏.‏

وكذا قال سعيد بن جبير، وعامر الشعبي‏:‏ أن كل ماء في الأرض فأصله من السماء‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ أصله من الثلج يعني‏:‏ أن الثلج يتراكم على الجبال، فيسكن في قرارها، فتنبع العيون من أسافلها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ‏}‏ أي‏:‏ ثم يخرج بالماء النازل من السماء والنابع من الأرض زرعا ‏{‏مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ‏}‏ أي‏:‏ أشكاله وطعومه وروائحه ومنافعه، ‏{‏ثُمَّ يَهِيجُ‏}‏ أي‏:‏ بعد نضارته وشبابه يكتهل ‏{‏فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا‏}‏، قد خالطه اليُبْس، ‏{‏ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا‏}‏ أي‏:‏ ثم يعود يابسا يتحطم، ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ‏}‏ أي‏:‏ الذين يتذكرون بهذا فيعتبرون إلى أن الدنيا هكذا، تكون خَضرةً نضرةً حسناء، ثم تعود عَجُوزا شوهاء، والشاب يعود شيخا هَرِما كبيرا ضعيفا ‏[‏قد خالطه اليبس‏]‏، وبعد ذلك كله الموت‏.‏ فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير، وكثيرًا ما يضرب الله تعالى مثل الحياة الدنيا بما ينزل الله من السماء من ماء، وينبت به زروعا وثمارا، ثم يكون بعد ذلك حُطاما، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏45‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ‏}‏ أي‏:‏ هل يستوي هذا ومن هو قاسي القلب بعيد من الحق‏؟‏‏!‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏122‏]‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ فلا تلين عند ذكره، ولا تخشع ولا تعي ولا تفهم، ‏{‏أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏‏.‏

هذا مَدْحٌ من الله- عز وجل- لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسوله الكريم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يعني القرآن كله متشابه مثاني‏.‏

وقال قتادة‏:‏ الآية تشبه الآية، والحرف يشبه الحرف‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏مَثَانِيَ‏}‏ ترديد القول ليفهموا عن ربهم عز وجل‏.‏

وقال عكرمة، والحسن‏:‏ ثنَّى الله فيه القضاء- زاد الحسن‏:‏ تكون السورة فيها آية، وفي السورة الأخرى آية تشبهها‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏مَثَانِيَ‏}‏ مُرَدَّد، رُدِّد موسى في القرآن، وصالح وهود والأنبياء، عليهم السلام، في أمكنة كثيرة‏.‏

وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏مَثَانِيَ‏}‏ قال‏:‏ القرآن يشبه بعضه بعضا، ويُرَدُّ‏}‏ بعضه على بعض‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ وُيرْوى عن سفيان بن عيينة معنى قوله‏:‏ ‏{‏مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ‏}‏ أنّ سياقات القرآن تارةً تكونُ في معنى واحد، فهذا من المتشابه، وتارةً تكونُ بذكر الشيء وضده، كذكر المؤمنين ثم الكافرين، وكصفة الجنة ثم صفة النار، وما أشبه هذا، فهذا من المثاني، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏14، 13‏]‏، وكقوله ‏{‏كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏7‏]‏، إلى أن قال‏:‏ ‏{‏كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏18‏]‏، ‏{‏هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏49‏]‏، إلى أن قال‏:‏ ‏{‏هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏55‏]‏، ونحو هذا من السياقات فهذا كله من المثاني، أي‏:‏ في معنيين اثنين، وأما إذا كان السياق كله في معنى واحد يشبه بعضه بعضا، فهو المتشابه وليس هذا من المتشابه المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏7‏]‏، ذاك معنى آخر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ أي هذه صفة الأبرار، عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد‏.‏ والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف، ‏{‏ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ لما يرجون ويُؤمِّلون من رحمته ولطفه، فهم مخالفون لغيرهم من الكفار من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات، وسماع أولئك نَغَمات لأبيات، من أصوات القَيْنات‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا، بأدب وخشية، ورجاء ومحبة، وفهم وعلم، كما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏2- 4‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏73‏]‏ أي‏:‏ لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها، بل مصغين إليها، فاهمين بصيرين بمعانيها؛ فلهذا إنما يعملون بها، ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم ‏[‏أي يرون غيرهم قد سجد فيسجدون تبعا له‏]‏‏.‏‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم يلزمون الأدب عند سماعها، كما كان الصحابة، رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقشعر جلودهم، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله‏.‏ لم يكونوا يتصارخُون ولا يتكلّفون ما ليس فيهم، بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك؛ ولهذا فازوا بالقِدح المُعَلّى في الدنيا والآخرة‏.‏

قال عبد الرزاق‏:‏ حدثنا مَعْمَر قال‏:‏ تلا قتادة، رحمه الله‏:‏ ‏{‏تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

قال‏:‏ هذا نعت أولياء الله، نعتهم الله بأن تقشعر جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما هذا في أهل البدع، وهذا من الشيطان‏.‏

وقال السُّدِّي‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ إلى وعد الله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ أي‏:‏ هذه صفة من هداه الله، ومن كان على خلاف ذلك فهو ممن أضله الله، ‏{‏وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏33‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 26‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏، ويُقْرَعُ فيقال له ولأمثاله من الظالمين‏:‏ ‏{‏ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ‏}‏، كمن يأتي آمنا يوم القيامة‏؟‏‏!‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏22‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏48‏]‏، وقال ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏40‏]‏، واكتفى في هذه الآية بأحد القسمين عن الآخر، كقول الشاعر‏.‏

فَمَا أدْري إذَا يَمَّمْتُ أرْضًا *** أريدُ الخيرَ‏:‏ أيّهما يَليني‏؟‏

يعني‏:‏ الخير أو الشر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ القرون الماضية المكذبة للرسل، أهلكهم الله بذنوبهم، وما كان لهم من الله من واق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ أي‏:‏ بما أنزل بهم من العذاب والنكال وتشفي المؤمنين بهم، فليحذر المخاطبون من ذلك، فإنهم قد كذبوا أشرف الرسل، وخاتم الأنبياء، والذي أعده الله لهم في الآخرة من العذاب الشديد أعظمُ مما أصابهم في الدنيا؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 31‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ‏}‏ أي‏:‏ بينا للناس فيه بضرب الأمثال، ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏، فإن المثل يُقَرّب المعنى إلى الأذهان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏28‏]‏ أي‏:‏ تعلمونه من أنفسكم، وقال‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏43‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ‏}‏ أي‏:‏ هو قرآن بلسان عربي مبين، لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا لبس، بل هو بيان ووضوح وبرهان، وإنما جعله الله ‏[‏عز وجل‏]‏ كذلك، وأنزله بذلك ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ أي‏:‏ يحذرون ما فيه من الوعيد، ويعملون بما فيه من الوعد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ‏}‏ أي‏:‏ يتنازعون في ذلك العبد المشترك بينهم، ‏{‏وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ‏}‏ أي‏:‏ خالصا لرجل، لا يملكه أحد غيره، ‏{‏هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا‏}‏ أي‏:‏ لا يستوي هذا وهذا‏.‏ كذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة مع الله، والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له‏.‏ فأين هذا من هذا‏؟‏

قال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد‏:‏ هذه الآية ضربت مثلا للمشرك والمخلص، ولما كان هذا المثلُ ظاهرا بَيِّنا جليا، قال‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ‏}‏ أي‏:‏ على إقامة الحجة عليهم، ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ فلهذا يشركون بالله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ‏}‏ هذه الآية من الآيات التي استشهد بها الصديق ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ عند موت الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى تحقق الناس موته، مع قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏144‏]‏‏.‏

ومعنى هذه الآية‏:‏ ستنقلون من هذه الدار لا محالة وستجتمعون عند الله في الدار الآخرة، وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله عز وجل، فيفصل بينكم، ويفتح بالحق وهو الفتاح العليم، فينجي المؤمنين المخلصين الموحدين، ويعذب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين‏.‏

ثم إن هذه الآية- وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين، وذِكْر الخصومة بينهم في الدار الآخرة- فإنها شاملة لكل متنازعين في الدنيا، فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة‏.‏

قال ابن أبي حاتم، رحمه الله‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا سفيان، عن محمد بن عمرو، عن ابن حاطب- يعني يحيى بن عبد الرحمن- عن ابن الزبير، عن الزبير قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ‏}‏ قال الزبير‏:‏ يا رسول الله، أتكرر علينا الخصومة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ قال‏:‏ إن الأمر إذًا لشديد‏.‏

وكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان، وعنده زيادة‏:‏ ولما نزلت‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏8‏]‏ قال الزبير‏:‏ أي رسول الله، أي نعيم نسأل عنه‏؟‏ وإنما- يعني‏:‏ هما الأسودان‏:‏ التمر والماء- قال‏:‏ ‏"‏أما إن ذلك سيكون‏"‏‏.‏

وقد روى هذه الزيادة الترمذي وابن ماجه، من حديث سفيان، به‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضا‏:‏ حدثنا ابن نمير حدثنا محمد- يعني ابن عمرو- عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير بن العوام قال‏:‏ لما نزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ‏}‏ قال الزبير‏:‏ أي رسول الله، أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم ليكررن عليكم، حتى يُؤدَّى إلى كل ذي حق حقه‏"‏‏.‏ قال الزبير‏:‏ والله إن الأمر لشديد‏.‏

ورواه الترمذي من حديث محمد بن عمرو به وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ابن لَهِيعة، عن أبي عُشَّانة، عن عقبة بن عامر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أول الخصمين يوم القيامة جاران‏"‏‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، إنه ليختصم ، حتى الشاتان فيما انتطحتا‏"‏ تفرد به أحمد‏.‏

وفي المسند عن أبي ذر، رضي الله عنه ‏[‏أنه‏]‏ قال‏:‏ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاتين ينتطحان، فقال‏:‏ ‏"‏أتدري فيم ينتطحان يا أبا ذر‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏لكن الله يدري وسيحكم بينهما‏"‏‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا سهل بن بحر، حدثنا حيان بن أغلب، حدثنا أبي، حدثنا ثابت عن أنس ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ ، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يجاء بالإمام الخائن يوم القيامة، فتخاصمه الرعية فيفلجون عليه، فيقال له‏:‏ سد ركنا من أركان جهنم‏"‏‏.‏

ثم قال‏:‏ الأغلب بن تميم ليس بالحافظ‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، رضي الله عنهما ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ‏}‏ يقول‏:‏ يخاصم الصادق الكاذب، والمظلوم الظالم، والمهدي الضال، والضعيف المستكبر‏.‏‏.‏

وقد روى ابن منده في كتاب ‏"‏الروح‏"‏، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ يختصم الناس يوم القيامة، حتى تختصم الروح مع الجسد، فتقول الروح للجسد‏:‏ أنت فعلت‏.‏ ويقول الجسد للروح‏:‏ أنت أمرت، وأنت سولت‏.‏ فيبعث الله ملكا يفصل بينهما، فيقول ‏[‏لهما‏]‏ إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير والآخر ضرير، دخلا بستانا، فقال المقعد للضرير‏:‏ إني أرى هاهنا ثمارا، ولكن لا أصل إليها‏.‏ فقال له الضرير‏:‏ اركبني فتناولها، فركبه فتناولها، فأيهما المعتدي‏؟‏ فيقولان‏:‏ كلاهما‏.‏ فيقول لهما الملك‏.‏ فإنكما قد حكمتما على أنفسكما‏.‏ يعني‏:‏ أن الجسد للروح كالمطية، وهو راكبه‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا جعفر بن أحمد بن عَوْسَجة، حدثنا ضرار، حدثنا أبو سلمة الخزاعي منصور بن سلمة، حدثنا القمي- يعني يعقوب بن عبد الله- عن جعفر بن المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر ‏[‏رضي الله عنهما‏]‏ قال‏:‏ نزلت هذه الآية، وما نعلم في أي شيء نزلت‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ‏}‏ ‏[‏قال‏]‏ قلنا‏:‏ من نخاصم‏؟‏ ليس بيننا وبين أهل الكتاب خصومة، فمن نخاصم‏؟‏ حتى وقعت الفتنة فقال ابن عمر‏:‏ هذا الذي وعدنا ربنا- عز وجل- نختصم فيه‏.‏

ورواه النسائي عن محمد بن عامر، عن منصور بن سلمة، به‏.‏

وقال أبو العالية ‏[‏في قوله‏]‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ‏}‏ قال‏:‏ يعني أهل القبلة‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ يعني أهل الإسلام وأهل الكفر‏.‏

وقد قدمنا أن الصحيح العموم، والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 35‏]‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى مخاطبا للمشركين الذين افتروا على الله، وجعلوا معه آلهة أخرى، وادعوا أن الملائكة بنات الله، وجعلوا لله ولدا- تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا- ومع هذا كذبوا بالحق إذ جاءهم على ألسنة رسل الله، صلوات الله ‏[‏وسلامه‏]‏ عليهم أجمعين، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ‏}‏ أي‏:‏ لا أحد أظلم من هذا؛ لأنه جمع بين طرفي الباطل،

كذب على الله، وكَذَّب رسول الله، قالوا الباطل وردوا الحق؛ ولهذا قال متوعدا لهم‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ‏}‏ وهم الجاحدون المكذبون‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ قال مجاهد، وقتادة، والربيع بن أنس، وابن زيد‏:‏ ‏{‏الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ‏}‏ هو الرسول‏.‏ وقال السدي‏:‏ هو جبريل عليه السلام، ‏{‏وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ محمدا صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ‏}‏ قال‏:‏ من جاء بلا إله إلا الله، ‏{‏وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقرأ الربيع بن أنس‏:‏ ‏"‏الذين جاءوا بالصدق‏"‏ يعني‏:‏ الأنبياء، ‏"‏وصدقوا به‏"‏ يعني‏:‏ الأتباع‏.‏

وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ قال‏:‏ أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة، فيقولون‏:‏ هذا ما أعطيتمونا، فعملنا فيه بما أمرتمونا‏.‏

وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين، فإن المؤمن يقول الحق ويعمل به، والرسول صلى الله عليه وسلم أولى الناس بالدخول في هذه الآية على هذا التفسير، فإنه جاء بالصدق، وصدق المرسلين، وآمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ‏}‏ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ المسلمون‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ اتقوا الشرك‏.‏

‏{‏لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ في الجنة، مهما طلبوا وجدوا، ‏{‏ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏16‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 40‏]‏

‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ‏}‏‏.‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏- وقرأ بعضهم‏:‏ ‏"‏عباده‏"‏- يعني أنه تعالى يكفي من عبده وتوكل عليه‏.‏

وقال ابن أبي حاتم هاهنا‏:‏ حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن، وهب حدثنا عمي، حدثنا أبو هانئ، عن أبي علي عمرو بن مالك الجنبي، عن فضالة بن عبيد الأنصاري؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏أفلح من هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا، وقَنَعَ به‏"‏‏.‏

ورواه الترمذي والنسائي من حديث حيوة بن شريح، عن أبي هانئ الخولاني، به‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ صحيح‏.‏

‏{‏وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ‏}‏ يعني‏:‏ المشركين يخوفون الرسول ويتوعدونه بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها من دونه؛ جهلا منهم وضلالا؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ‏}‏ أي‏:‏ منيع الجناب لا يضام، من استند إلى جنابه ولجأ إلى بابه، فإنه العزيز الذي لا أعز منه، ولا أشد انتقاما منه، ممن كفر به وأشرك وعاند رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ يعني‏:‏ ‏[‏أن‏]‏ المشركين كانوا يعترفون بأن الله هو الخالق للأشياء كلها، ومع هذا يعبدون معه غيره، مما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ‏}‏ أي‏:‏ لا تستطيع شيئا من الأمر‏.‏

وذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديث قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس مرفوعا‏:‏ ‏"‏احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك، جفت الصحف، ورفعت الأقلام، واعمل لله بالشكر في اليقين، واعلم أن الصبر على ما تكره خير كثير، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا‏"‏‏.‏

‏{‏قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ الله كافيّ، عليه توكلت وعليه يتوكل المتوكلون، كما قال هود، عليه السلام، حين قال له قومه‏:‏ ‏{‏إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِي إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏54- 56‏]‏‏.‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، حدثنا محمد بن حاتم، عن أبي المقدام- مولى آل عثمان- عن محمد بن كعب القرظي، حدثنا ابن عباس ‏[‏رضي الله عنهما‏]‏ - رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق ‏[‏منه‏]‏ بما في يديه، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ على طريقتكم، وهذا تهديد ووعيد‏.‏‏.‏ ‏{‏إِنِّي عَامِلٌ‏}‏ أي‏:‏ على طريقتي ومنهجي، ‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ ستعلمون غب ذلك ووباله ‏{‏مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا، ‏{‏وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ دائم مستمر، لا محيد له عنه‏.‏ وذلك يوم القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى مخاطبا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ لجميع الخلق من الإنس والجن لتنذرهم به، ‏{‏فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ‏}‏ أي‏:‏ فإنما يعود نفع ذلك إلى نفسه، ‏{‏وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا‏}‏ أي‏:‏ إنما يرجع وبال ذلك على نفسه، ‏{‏وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ‏}‏ أي‏:‏ بموكل أن يهتدوا، ‏{‏إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏12‏]‏، ‏{‏فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏40‏]‏‏.‏

ثم قال تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة بأنه المتصرف في الوجود بما يشاء، وأنه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى، بما يرسل من الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان، والوفاة الصغرى عند المنام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏61، 60‏]‏، فذكر الوفاتين‏:‏ الصغرى ثم الكبرى‏.‏ وفي هذه الآية ذكر الكبرى ثم الصغرى؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏}‏ فيه دلالة على أنها تجتمع في الملأ الأعلى، كما ورد بذلك الحديث المرفوع الذي رواه ابن منده وغيره‏.‏ وفي صحيحي البخاري ومسلم من حديث عبيد الله بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلْينْفُضْه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليقل‏:‏ باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين‏"‏‏.‏

وقال بعض السلف ‏[‏رحمهم الله‏]‏ يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا، فتتعارف ما شاء الله تعالى أن تتعارف ‏{‏فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ‏}‏ التي قد ماتت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى‏.‏

قال السدي‏:‏ إلى بقية أجلها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يمسك أنفس الأموات، ويرسل أنفس الأحياء، ولا يغلط‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏‏.‏